كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال العلماء: وإذا كانت العلة في إخراجه من المسجد أنه يُتأذَّى به ففي القياس أن كل من تأذى به جيرانه في المسجد بأن يكون ذَرِب اللسان سفِيهًا عليهم، أو كان ذا رائحة قبيحة لا تَرِيمه لسوء صناعته، أو عاهة مؤذية كالجذام وشبهه.
وكل ما يتأذى به الناس كان لهم إخراجه ما كانت العلة موجودة فيه حتى تزول.
وكذلك يجتنب مجتمع الناس حيث كان لصلاة أو غيرها كمجالس العلم والولائم وما أشبهها، مَن أكل الثُّوم وما في معناه، مما له رائحة كريهة تؤذي الناس.
ولذلك جمع بين البصل والثوم والكراث، وأخبر أن ذلك مما يتأذى به.
قال أبو عمر بن عبد البر: وقد شاهدت شيخنا أبا عمر أحمد بن عبد الملك بن هشام رحمه الله أفتى في رجل شكاه جيرانه واتفقوا عليه أنه يؤذيهم في المسجد بلسانه ويده فشُووِر فيه؛ فأفتى بإخراجه من المسجد وإبعاده عنه، وألا يشاهد معهم الصلاة؛ إذ لا سبيل مع جنونه واستطالته إلى السلامة منه، فذاكرته يومًا أمره وطالبته بالدليل فيما أفتى به من ذلك وراجعته فيه القول؛ فاستدل بحديث الثُّوم، وقال: هو عندي أكثر أذًى من أكل الثوم، وصاحبه يُمنع من شهود الجماعة في المسجد.
قلت: وفي الآثار المرسلة «أن الرجل ليكذب الكِذْبَة فيتباعد عنه المَلَك من نتن ريحه».
فعلى هذا يُخرج من عُرف منه الكذب والتقوّل بالباطل فإن ذلك يؤذي.
الخامسة: أكثر العلماء على أن المساجد كلها سواء؛ لحديث ابن عمر.
وقال بعضهم: إنما خرج النهي على مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل جبريل عليه السلام ونزوله فيه؛ ولقوله في حديث جابر: «فلا يقربَنّ مسجدنا».
والأوّل أصح، لأنه ذكر الصفة في الحكم وهي المسجدية، وذكرُ الصفة في الحكم تعليل.
وقد روى الثعلبي بإسناده عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي الله يوم القيامة بمساجد الدنيا كأنها نجائب بيض قوائمها من العنبر وأعناقها من الزعفران ورؤوسها من المسك وأزمّتها من الزبرجد الأخضر وقُوّامها المؤذنون فيها يقودونها وأئمتها يسوقونها وعمارها متعلقون بها فتجوز عرصات القيامة كالبرق الخاطف فيقول أهل الموقف هؤلاء ملائكة مقرّبون وأنبياء مرسلون فينادي ما هؤلاء بملائكة ولا أنبياء ولكنهم أهل المساجد والمحافظون على الصلوات من أمة محمد صلى الله عليه وسلم» وفي التنزيل {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله} [التوبة: 18] وهذا عام في كل مسجد.
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان إن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر}» وقد تقدم.
السادسة: وتصان المساجد أيضًا عن البيع والشراء وجميع الاشتغال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي دعا إلى الجمل الأحمر: «لا وَجَدْتَ إنما بُنيت المساجد لمَا بُنيت له» أخرجه مسلم من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما صلى قام رجل فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا وَجدتَ إنما بُنيت المساجد لمَا بُنيت له» وهذا يدل على أن الأصل ألا يعمل في المسجد غير الصلوات والأذكار وقراءة القرآن.
وكذا جاء مفسرًا من حديث أنس قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَهٍ مَهْ؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تُزْرِمُوه دَعُوه» فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن».
أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فأمر رجلًا من القوم فجاء بدَلْو من ماء فشنّه عليه خرّجه مسلم.
ومما يدل على هذا من الكتاب قوله الحق: {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه}.
وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاوية بن الحكم السّلَمِيّ: «إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الحديث بطوله خرجه مسلم في صحيحه، وحسبك! وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه صوت رجل في المسجد فقال: ما هذا الصوت! أتدري أين أنت! وكان خَلَف بن أيوب جالسًا في مسجده فأتاه غلامه يسأله عن شيء فقام وخرج من المسجد وأجابه؛ فقيل له في ذلك فقال: ما تكلمت في المسجد بكلام الدنيا منذ كذا وكذا، فكرهت أن أتكلم اليوم.
السابعة: روى الترمذِيّ من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن تناشد الأشعار في المسجد، وعن البيع والشراء فيه، وأن يتحلّق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة.
قال: وفي الباب عن بُريدة وجابر وأنس حديث عبد الله بن عمرو حديث حسن.
قال محمد بن إسماعيل: رأيت محمّدًا وإسحاق وذكر غيرهما يحتجّون بحديث عمرو بن شعيب.
وقد كره قوم من أهل العلم البيع والشراء في المسجد؛ وبه يقول أحمد وإسحاق.
وروي أن عيسى ابن مريم عليهما السلام أتى على قوم يتبايعون في المسجد فجعل رداءه مخراقًا، ثم جعل يسعى عليهم ضربًا ويقول: يا أبناء الأفاعي، اتخذتم مساجد الله أسواقا هذا سوق الآخرة.
قلت: وقد كره بعض أصحابنا تعليم الصبيان في المساجد، ورأى أنه من باب البيع.
وهذا إذا كان بأجرة، فلو كان بغير أجرة لمنع أيضًا من وجه آخر، وهو أن الصبيان لا يتحرّزون عن الأقذار والوسخ؛ فيؤدّي ذلك إلى عدم تنظيف المساجد، وقد أمر صلى الله عليه وسلم بتنظيفها وتطييبها فقال: «جَنِّبُوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وسلّ سيوفِكم وإقامةَ حدودِكم ورفع أصواتكم وخصوماتكم وأجمروها في الجُمَع واجعلوا على أبوابها المطاهر» في إسناده العلاء بن كثير الدمشقي مولى بني أمية، وهو ضعيف عندهم؛ ذكره أبو أحمد بن عدِيّ الجرجاني الحافظ.
وذكر أبو أحمد أيضًا من حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: صلّيت العصر مع عثمان أمير المؤمنين فرأى خياطًا في ناحية المسجد فأمر بإخراجه؛ فقيل له: يا أمير المؤمنين، إنه يكنِس المسجد ويغلِق الأبواب ويرشّ أحيانًا.
فقال عثمان: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «جنّبوا صنّاعكم من مساجدكم» هذا حديث غير محفوظ، في إسناده محمد بن مجيب الثقفي، وهو ذاهب الحديث.
قلت: ما ورد في هذا المعنى وإن كان طريقه لَيِّنًا فهو صحيح معنًى؛ يدل على صحته ما ذكرناه قبل.
قال الترمذِيّ: وقد رُوي عن بعض أهل العلم من التابعين رُخْصةٌ في البيع والشراء في المسجد.
وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في غير حديث رخصةٌ في إنشاد الشعر في المسجد.
قلت: أما تناشد الأشعار فاختلف في ذلك، فمن مانع مطلقا، ومن مجيز مطلقًا.
والأوْلى التفصيل، وهو أن يُنظر إلى الشعر فإن كان مما يقتضي الثناء على الله عز وجل أو على رسوله صلى الله عليه وسلم أو الذبّ عنهما كما كان شعر حسان، أو يتضمن الحض على الخير والوعظ والزهد في الدنيا والتقلّل منها، فهو حسن في المساجد وغيرها؛ كقول القائل:
طَوّفي يا نفس كي أقصد فردًا صمدًا ** وذريني لست أبغي غير ربي أحدا

فهو أنسي وجليسي ودعي الناس ** فما إن تجدي من دونه ملتحدا

وما لم يكن كذلك لم يجز؛ لأن الشعر في الغالب لا يخلو عن الفواحش والكذب والتزين بالباطل، ولو سلم من ذلك فأقل ما فيه اللّغْوُ والهَذَر، والمساجد منزهة عن ذلك؛ لقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ}.
وقد يجوز إنشاده في المسجد؛ كقول القائل:
كفَحْل العَدَاب الفَرْدِ يضربه النَّدَى ** تَعَلَّى النّدَى في متنه وتَحدّرا

وقول الآخر:
إذا سقط السماء بأرض قوم ** رَعَيناه وإن كانوا غِضابَا

فهذا النوع وإن لم يكن فيه حَمْد ولا ثناء يجوز؛ لأنه خالٍ عن الفواحش والكذب.
وسيأتي ذكر الأشعار الجائزة وغيرها بما فيه كفاية في الشعراء إن شاء الله تعالى، وقد روى الدارقطنِيّ من حديث هشام بن عُرْوة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: ذُكر الشعر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هو كلام حَسَنه حَسَن وقبيحه قبيح» وفي الباب عن عبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ذكره في السنن.
قلت: وأصحاب الشافعيّ يأثرون هذا الكلام عن الشافعيّ وأنه لم يتكلم به غيره؛ وكأنهم لم يقفوا على الأحاديث في ذلك.
والله أعلم.
الثامنة: وأما رفع الصوت فإن كان مما يقتضي مصلحة للرافع صوتَه دُعي عليه بنقيض قصده؛ لحديث بَريرة المتقدّم، وحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سمع رجلًا يَنْشُد ضالّة في المسجد فليقل لا ردّها الله عليك فإن المساجد لم تُبْن لهذا» وإلى هذا ذهب مالك وجماعة، حتى كرهوا رفع الصوت في المسجد في العلم وغيره.
وأجاز أبو حنيفة وأصحابه ومحمد بن مسلمة من أصحابنا رفعَ الصوت في الخصومة والعلم؛ قالوا: لأنهم لابد لهم من ذلك.
وهذا مخالف لظاهر الحديث، وقولهم: لابد لهم من ذلك، ممنوع، بل لهم بُدّ من ذلك لوجهين: أحدهما بملازمة الوَقَار والحرمة، وبإحضار ذلك بالبال والتحرّز من نقيضه.
والثاني أنه إذا لم يتمكن من ذلك فليتّخذ لذلك موضعًا يخصّه، كما فعل عمر حيث بَنَى رحبة تُسمَّى البطيحاء، وقال: من أراد أن يَلْغَط أو يُنْشِد شعرًا يعني في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فليخرج إلى هذه الرحبة.
وهذا يدل على أن عمر كان يكره إنشاد الشعر في المسجد، ولذلك بنى البطيحاء خارجه.
التاسعة: وأما النوم في المسجد لمن احتاج إلى ذلك من رجل أو امرأة من الغرباء ومن لا بيت له فجائز؛ لأن في البخاري وقال أبو قِلابة عن أنس: قَدِم رهط من عُكْل على النبيّ صلى الله عليه وسلم فكانوا في الصُّفة، وقال عبد الرحمن بن أبي بكر: كان أصحاب الصفة فقراء.
وفي الصحيحين عن ابن عمر: أنه كان ينام وهو شاب أعزب لا أهل له في مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم.
لفظ البخاري.
وترجم باب نوم المرأة في المسجد وأدخل حديث عائشة في قصة السوداء التي اتهمها أهلها بالوِشاح، قالت عائشة: وكان لها خِبَاء في المسجد أو حِفْش. الحديث.
ويقال: كان مبيت عطاء بن أبي رَبَاح في المسجد أربعين سنة.
العاشرة: روى مسلم عن أبي حميد أو عن أبي أسَيْد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد فلْيَقُل اللَّهُمَّ افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل اللَّهُمَّ إني أسألك من فضلك» خرجه أبو داود كذلك؛ إلا أنه زاد بعد قوله: «إذا دخل أحدكم المسجد: فليسلِّم وليصلِّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم ليقل اللهم افتح لي.» الحديث.
وروى ابن ماجه عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد قال: «باسم الله والسلام على رسول الله اللَّهُمَّ اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج قال باسم الله والصلاة على رسول الله اللَّهُمَّ اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وفضلك» وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فليصلّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم وليقل اللَّهُمَّ افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فلْيُسَلِّم على النبيّ صلى الله عليه وسلم وليقل: اللَّهُمَّ اعْصِمْنِي من الشيطان الرجيم» وخرج أبو داود عن حَيْوة بن شُريح قال: لَقِيت عقبة بن مسلم فقلت له بلغني أنك حدّثت عن عبد الله بن عمرو بن العاصي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد قال: «أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم» قال: نعم قال: فإذا قال ذلك قال الشيطان: حُفِظ مني سائرَ اليوم.